وبعد:
>>
فقد وصل الناس اليوم في ظلم بعضهم بعضاً إلى حدّ أن يقول القائل فيهم: كأنهم لا يؤمنون بالبعث ولا بالموت ولا بأنّ الجزاء واقع على الأعمال، وذلك لأنّهم غفَلوا عن عواقب الظلم في الدنيا والآخرة. ولو أنهم علموا أن شقاء الدنيا والآخرة ناتِج عن الظلم ما دَنَا من الظلم أحد، وقد سمِعتم طرَفاً من النصوص التي تُرهّب من الظلم وأصحابه وتُبيّن الوعيد الشديد على مُرتَكبه وأن من قبل ردّ المظالم أحاط به خُصماؤه يوم القيامة فهذا يأخذ بيده وهذا يقبض على ناصيته وهذا يُمسك يده وهذا يتعلّق برقبته, هذا يقول: ظلمَني فغَشّني وذاك يقول: ظلمني فخدعني، وثالث يقول: ظلمني فأكل مالي, ورابع يقول: ظلمني فاغتابني، وآخر يقول: كذب عليّ, والجار يقول: جاوَرَني فلان فأساء جواري، وهذا يقول: رآني مظلوماً فلم ينصرني، وهذا يقول: رآني على مُنكر فلم ينهَني، وهذا يقول: جَحَد مالي أو مَطَلني حقي, وهذا يقول: باعني وأخفى عنّي عيب السّلعة, وهذا يقول: شهِد عليّ بالزور، وهذه زوجة تقول: ظلمني في النفقة ولم يُحسن عِشرتي أو تقول: لم يَعدِل بيني وبين زوجته الأخرى. وهذا الزوج يقول عَصَتني زوجتي ونَشَزَت علي.
>>
أنت على تلك الحال المُخيفة التي لا يرى فيها بغضك من كثرة من تعلّق بك من المظلومين الذين أحكموا فيك أيدَيهم وأنشبوا فيك مخالبهم وأنت مُتحيِّرٌ مضطرب العقل من كثرتهم ومُطالبتهم حقوقَهم, فلم يَبْق منهم أحد ممن عاشرته في الدنيا وظلمتَه إلا وقد استحقّ عليك مَظلَمة.
>>
إذا قَرَع سمعك نداء الجبّار جلّ وعلا:
اليوم تُجزى كلّ نفس بما كسبت لا ظلم اليوم
. >>
فعند ذلك ينخَلِع قلبك وتضطرب أعضاؤك من الهيبة, وتوقن نفسُك بالخسران، وتتذكّر ما أنذرك الله تعالى به على لسان رُسُله حيث قال:
ولا تَحسَبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار
مُهطعين مقنعي رؤوسهم لا يَرتدّ إليهم طَرْفهم وأفئدتهم هواء 
. وقال أيضاً:
وترى الظالمين لمّا رأوا العذاب يقولون هل إلى مرَدٍّ من سبيل
وتراهم يُعرَضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طَرْفٍ خفي 
. فيالها من مصيبة وما أشدّها من حسرة في ذلك اليوم إذا جاء الرب جلّ وعلا للفصل بين عباده بحُكمه العدل رأى الظالم وعلم أنه مُفلس فقير عاجز مَهين لا يقدر على أن يرُدّ حقاً أو يُظهِر عُذراً.
>>
فعند ذلك تؤخذ حسناته التي تعِب عليها في عُمُره ليلاً ونهاراً حضراً وسفَراً، وتُعطى للخُصَماء عِوَضاً عن حقوقهم، فلينظر العاقل فيكم إلى المصيبة في مثل ذلك اليوم الذي رُبَّما لا يبقى معه شيء من الحسنات وإن بقي شيء أخَذه الغُرماء، فكيف تكون حالك أيها العبد إذا رأيت صحيفتك خالية من حسنات طالما تَعِبت عليها فإذا سَألت عنها قيل لك: نُقِلت إلى صحيفة خصمائك الذين ظلمتهم. وكيف بك إذا رأيت صحيفتك مشحونة مملوءة بسيئات لم تعملها، فإذا سَألت عنها من أين جاءت إليك قيل: هذه سيئات القوم الذين طالما اغْتَبْتَهُم وتناولت أموالهم بالباطل وشتمتهم وخُنْتَهم في البيع والجوار والمعاملة.
>>
أحسبت يا بن آدم أنّك تُهمَل وتترك فلا تعاقب وتظلم وتتقلّب في النعم كيف شئت ولا تُحاسب؟
>>
أنسيت قول النبي

:
((إنّ الله لَيُمْلي للظالم حتى إذا أخَذه لم يُفلِته)). كل هذه من جهالتك وعميان بصيرتك، ولكن اعمل ما شئت فإنّك مُحاسب عليه وأحْبب من شئت فإنّك مُفارقه واظلم من شئت فإنه مُنتصر منك يوم القيامة نسأل الله تعالى أن يُجنِّبنا الظلم وأن يكفينا شر الظالمين، إنه وليّ ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين